
خاص - شبكة قُدس: في خضم حرب الإبادة على قطاع غزة، ومع اتساع الهوة بين الأهداف المعلنة لحكومة الاحتلال الإسرائيلي والواقع العسكري والسياسي المتعثر، برز تحذير لافت أطلقه المحلل العسكري الإسرائيلي المخضرم روني بن يشاي، محذرًا من أن ما تسعى إليه حكومة نتنياهو تحت عنوان “النصر الكامل” قد يتحوّل إلى ما يُعرف في أدبيات الحروب بـ”النصر البيروسي”.
هذا المصطلح، المأخوذ من تجربة تاريخية لملك إغريقي يُدعى بيروس، لا يشير إلى هزيمة عسكرية صريحة، بل إلى انتصار يتم تحقيقه بثمن باهظ إلى درجة تُفقد المنتصر القدرة على الاستمرار أو الاستفادة من النصر نفسه. بتعبير آخر، هو “نصر يساوي الهزيمة”، أو كما قال بيروس نفسه بعد معركة هزم فيها الرومان لكنه خسر معظم جيشه: “نصر آخر كهذا وسأعود إلى بلادي وحيدًا”.
ينتمي هذا المفهوم إلى حقل "نظرية الكلفة" في تحليل النزاعات، والتي تفترض أن أي سلوك عسكري أو سياسي يجب تقييمه وفق موازنة دقيقة بين التكاليف والمكاسب. حين تتجاوز التكاليف، البشرية والاقتصادية والاستراتيجية، ما يمكن تحقيقه من مكاسب، يصبح الفعل، ولو بدا ناجحًا في الظاهر، عبئًا على الفاعل. في هذا الإطار، يندرج مفهوم “النصر البيروسي” كحالة نموذجية لتجاوز العتبة الحرجة بين النجاح الكمي والفشل النوعي. فالانتصار هنا لا يُقاس فقط بعدد الأهداف التي تم تحقيقها، بل بقدرة الدولة أو الجيش على الاستمرار كقوة فعالة بعد الانتصار، دون أن يفقد تماسكه الداخلي أو شرعيته الدولية.
حين يحذر بن يشاي من هذا النمط، فهو لا يتحدث من موقع المعارضة السياسية أو النقد الأخلاقي، بل من منظور أمني واستراتيجي صارم. فـ”إسرائيل”، بحسب رؤيته، تدفع كلفة متراكمة على عدة مستويات: أولًا، في ساحة المعركة، حيث يواجه الجيش حرب استنزاف في بيئة مدنية مكتظة، ويتكبد خسائر بشرية ومادية لا تُكشف كلها للرأي العام؛ ثانيًا، على المستوى الدولي، حيث تتآكل شرعية الحرب يومًا بعد يوم أمام مشاهد المجازر والدمار الهائل؛ وثالثًا، على مستوى الجبهة الداخلية، حيث تتفكك الثقة بين المؤسسة العسكرية والقيادة السياسية، ويظهر تآكل متزايد في الروح المعنوية، خاصة مع تعمق أزمة الاحتياط والانقسامات المجتمعية.
من زاوية نظرية أخرى، يمكن قراءة تحذير بن يشاي في إطار “نظرية الاستنزاف”، التي تفترض أن الطرف الذي يمتلك النفس الأطول والقدرة على تحمّل الكلفة هو من يربح الحرب في النهاية، حتى لو خسر جولات عديدة. بهذا المعنى، فإن استمرار الحرب الحالية في غزة، دون أفق سياسي، ودون تصور واضح لما بعد العمليات العسكرية، يُحوّل “إسرائيل” إلى الطرف الذي يتآكل على المدى الطويل، فيما تظهر المقاومة الفلسطينية، رغم الخسائر، كلاعب قادر على الصمود والتكيف، وهو ما يعيد تشكيل توازن الردع.
إضافة إلى ذلك، يُمكن إدراج “النصر البيروسي” ضمن دراسات “الشرعية الاستراتيجية”. فالأنظمة السياسية، لا سيما في الدول الديمقراطية أو تلك التي تسوّق نفسها كدول قانون، لا تستطيع الانتصار عسكريًا على حساب شرعيتها الأخلاقية والقانونية دون أن تدفع ثمنًا باهظًا. في حالة “إسرائيل”، لم يعد من الممكن فصل مخرجات الحرب عن صورتها الدولية الآخذة في التدهور، وهو ما ينعكس في مواقف متزايدة للشارع الغربي والمؤسسات الحقوقية التي تتهم الجيش الإسرائيلي بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. هنا، يصبح “النصر الكامل” ليس فقط مستحيلاً، بل مكلفًا على مستوى السمعة الدولية، تمامًا كما كان نصر بيروس مكلفًا على مستوى الجنود والميدان.
ما يقوله بن يشاي، بوضوح حاد، هو أن القيادة السياسية الإسرائيلية تعيش وهم القدرة المطلقة، وتتبنى خطابًا عدميًا لا يعترف بمحدودية القوة، ولا يستوعب أن الكلفة السياسية والأخلاقية للحرب قد تُفضي إلى انهيار داخلي، لا إلى انتصار خارجي. وإذا استمر هذا النمط، فإن النتيجة الحتمية، حتى لو تم إعلان النصر، ستكون حالة إنهاك استراتيجي، تجعل من “إسرائيل” أقل أمنًا وأقل تماسكًا، وأكثر عرضة للتهديدات في المدى البعيد.
بهذا المعنى، فإن النصر البيروسي ليس مجرد استعارة تاريخية، بل تحذير واقعي يستند إلى دروس الحروب الماضية وفشل الإمبراطوريات التي ظنت أن التفوق العسكري كافٍ لإخضاع الشعوب، فخرجت بانتصارات مشوهة، أعقبها انهيار بطيء أو سريع. ما تخشاه الأصوات العاقلة داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، مثل روني بن يشاي، هو أن تتحوّل الحرب في غزة إلى لحظة بيروسية أخرى، يُعلن فيها النصر، بينما الواقع يشير إلى أن “إسرائيل” خسرت ما هو أهم من السيطرة أو الردع: تماسكها الداخلي، وشرعيتها، وأمنها طويل المدى.
للمزيد من التفاصيل: إضغط هنا